خبئ آثارك الرقمية القديمة كلها

 

قد تندهش بشدة عندما ترى الحقائق والمعلومات التي يمكن أن يتوصل إليها شخص عند بحثه في موضوع معين باستخدام أدوات متاحة على الإنترنت، هذا لأن البيانات التي تُجمَع عن كل شيء غالبا ما تكون أكثر مما نتصور. فنحن قليلا ما نتصور عند استخدامنا للإنترنت حجم السجلات التي تحتفظ بها الأطراف المختلفة حول نشاطاتنا الإلكترونية، وهو أمر يجعل من تحقيق الخصوصية هدفا صعبا. لدى هاتفك ومزود خدمة الإنترنت والمواقع والتطبيقات التي تستخدمها تفاصيل بالغة الدقة عن نشاطك على الإنترنت وخارجه أيضا، لكن هناك بعض الممارسات والأدوات التي قد تساعدك في الحفاظ على خصوصيتك وإبقاء نشاطك وبياناتك بعيدا عن أعين المتطفلين، ويمكن بشكل عام الحكم على مقدار الخصوصية التي تتمتع بها على الإنترنت وفقا لقدرتك على إنكار أنشطتك الإلكترونية.

أنا لست مذنبا وليس لدي ما أخفيه

لا يتعين أن تكون مجرما حتى تهتم بخصوصيتك على الإنترنت، فالخصوصية حق من حقوق الإنسان، ولا يجب انتهاكها بداعي أن فقط من يقومون بأعمال إجرامية هم من يتمسكون بهذا الحق. تخيل العيش في بيت زجاجي يمكن لكل الناس رؤية ما يحدث داخله وكل ما تفعله بأدق التفاصيل، أو أن يكون هاتفك متصل بشاشة عملاقة تبث جميع مراسلاتك في ميدان عام، أو أن يحصل أحد على سجل دقيق لجميع تحركاتك، هل تتقبل أي من تلك الأفكار؟ غالبا لا، ولهذا لا يرتبط الحق في الخصوصية بالممارسات الإجرامية، كما أن وجود من يراقب جميع تحركاتنا يجعلنا نتردد في البحث عن كل ما نريد معرفته، وفعل كل ما نريد فعله حتى إذا لم يكن يؤذي أي شخص آخر، وإذا سمحنا بمراقبة أنشطتنا فإننا نعطي حق الحكم على ما نفعله إلى شخص آخر يحدد لنا ما يمكننا وما لا يمكننا فعله أو قوله أو حتى معرفته، وهذا يتنافى مع مبدأ الحرية، لهذا من المهم أن ندافع عن حريتنا ونحتفظ بكامل التحكم في معلوماتنا ومن نسمح له برؤية أي جزء منها. وقد صارت منصات التواصل تبني خوارزميات لعرض المحتوى الذي يضمن بقاء كل شخص على تلك المنصات لأكبر وقت ممكن بناءً على اهتماماته التي تعرفها من خلال البيانات التي تجمعها عنه، بالإضافة طبعا إلى استهدافه برسائل محددة تعرف أنها ستؤثر فيه، وهنا تساعد بياناتنا تلك الشركات والمنصات على التأثير فينا دون أن ندرك ذلك.

من بوسعه الحصول على بياناتي؟

قد يكون هذا الجزء مخيفا، معلوماتك مبعثرة في جميع الأرجاء.

يحتفظ هاتفك بنصيب الأسد من البيانات، فمن يصل إلى هاتفك بوسعه معرفة الكثير جدا عنك، بدءًا بمحادثاتك النصية وسجل مكالماتك وجهات الاتصال والصور ومقاطع الفيديو التي التقطتها والتي تحتفظ بها وصولا إلى الخدمات التي تستخدمها على هاتفك وسجلاتك عليها وسجل تصفح الإنترنت، والكثير من التفاصيل الأخرى. يحصل مزود خدمة الإنترنت (شركة الاتصالات) كذلك على سجلات تصفحك والتي تمكنه من معرفة المواقع التي قمت بزيارتها، وعلى بيانات أجهزتك فيعرف نوع كل جهاز يتصل والتفاصيل الدقيقة لاستخدامه، وتحصل المواقع والخدمات التي تستخدمها على عنوان IP والذي يمكن من خلاله استنتاج موقعك التقريبي وبيانات عنك مثل المتصفح ونظام التشغيل وحجم الشاشة، أما التطبيقات التي تستخدمها فبالإضافة إلى ما سبق يمكنها الوصول إلى ما تمنحها الإذن بالوصول إليه مثل الموقع الجغرافي الدقيق والكاميرا والميكروفون وملفات الهاتف ومستشعراته وجهات اتصالك وسجل مكالماتك، بل وحتى إجراء المكالمات نيابة عنك. أما الأشخاص الذين تتواصل معهم فلا يحصلون سوى على ما تسمح لهم أنت بالوصول إليه أو ما تسمح به المنصة التي تستخدمها للتواصل، فقد يفصح تطبيق التراسل عن رقم هاتفك وآخر وقت ظهرت فيه، وفي بعض الحالات أيضا موقعك الجغرافي، وقد تفصح الملفات التي ترسلها أيضا معلومات عن الجهاز الذي أُنشِأت من خلاله.

العديد من الخدمات الشهيرة تقوم أيضا بجمع أكبر قدر من المعلومات عن المستخدم، والغرض المعلن لهذا هو عرض إعلانات مناسبة لكل مستخدم، فتقوم شركة ميتا مثلا بتتبع نشاط المستخدم حتى خارج منصات ميتا عن طريق الإضافات التي تقبل بها المنصات الأخرى، فتحصل ميتا بالتالي على معلومات من الخدمات الأخرى التي تستخدمها والتي قد تكون تطبيقات بنكية أو ترفيهية أو حتى تطبيقات مواعدة، وتربط جميع هذه المعلومات بحسابات المستخدم على منصات ميتا، فإذا كان لديك تطبيق فيسبوك على هاتف أندرويد، وقمت باستخدام تطبيقات إخبارية أو ألعاب أو حتى تطبيق أوبر على الهاتف نفسه، وكانت تلك التطبيقات تعتمد على إحدى خدمات ميتا، سيعرف تطبيق فيسبوك باستخدامك لتلك التطبيقات ويجمع عنك بيانات من خلالها أيضا، وينطبق هذا أيضا عند استخدام فيسبوك على المتصفح واستخدام المتصفح نفسه للوصول إلى خدمات أخرى.

خبئ سجلاتك القديمة كلها

تميل الأجهزة والبرمجيات الحديثة إلى الاحتفاظ بسجل التصفح وسجل الملفات المستخدمة وسجل المكالمات وسجل المعاملات… إلخ. وهذا مفهوم بالطبع لأنه يجعل معاودة العمل على ما كنت تفعله أسهل كثيرا، لكن هذا يعني أيضا أن الوصول إلى أجهزتك أو حساباتك سيفشي عنك الكثير، لذا إن لم تكن تلك السجلات ضرورية فإن من الأفضل إلغاء تفعيلها أو محوها بشكل دوري. على أنظمة ويندوز ولينكس، يمكن لبرنامج BleachBit تنظيف العديد من الآثار على الجهاز مثل سجلات المتصفحات وما قام المستخدم بنسخ أو قصه من نصوص وملفات والعديد من الملفات والبيانات الأخرى بالإضافة إلى قدرته على محو الملفات والمجلدات بما لا يسمح باستعادتها.

لتخبئة سجل تصفحك من الجهاز يمكنك ببساطة تشغيل وضع التصفح المتخفي عند استخدام المتصفح، أو إذا كنت تريد محو سجل تصفحك الموجود بالفعل يمكنك فعل ذلك من إعدادات المتصفح، وبهذه السهولة لا يمكن لمن يصل لجهازك فتح سجل التصفح ومعرفة المواقع التي زرتها، أما لتخبئة المواقع من شركة الاتصالات يجب استخدام شبكة خاصة افتراضية (VPN) أو متصفح تور (TOR)، والأصعب هو تخبئة المواقع والخدمات التي نستخدمها من شركات مثل ميتا وجوجل لأنها لا تحتاج سوى استخدام خدمات ميتا أو جوجل على نفس الهاتف أو المتصفح الذي تستخدم عليه الخدمات الأخرى، الحل الأسهل هو إلغاء تفعيل ربط هذه البيانات بحسابك من إعدادات ميتا وجوجل، والحل الأصعب هو عزل تطبيقات جوجل أو ميتا عن باقي تطبيقات الهاتف، أو عزل مواقع جوجل أو ميتا عن المواقع الأخرى التي نزورها باستخدام المتصفح، ولعزل التطبيقات على هواتف أندرويد يمكن استخدام تطبيقات مثل Island أو Shelter أو استخدام خاصية العزل الموجودة في هواتف معينة مثل هواتف شاومي وسامسونج مثلا، أما على المتصفح فإننا نحتاج إما إلى استخدام متصفحات مختلفة بحيث نعزل مواقع ميتا في أحد المتصفحات مثلا ولا نستخدم باقي المواقع إلى جانبه، أو إنشاء مستخدمين متعددين في المتصفح، أو استخدام إضافة Firefox Multi-Account Containers لإنشاء مساحات معزولة عن بعضها البعض على فايرفوكس.

اختر خدمات لا تهوى جمع البيانات

صار جمع أكبر قدر من البيانات عن المستخدم من أهم طرق الربح لشركات التقنية مؤخرا، فالخدمات التي تتجنب جمع البيانات غير الضرورية هي الاستثناء، وعادة ما تكون تلك الخدمات غير مرتبطة بشركات هادفة للربح، أو تكون برمجيات حرة، أو شركات هادفة للربح لكنها تولي الخصوصية اهتماما خاصا، ويمكن تقييم البيانات التي تجمعها التطبيقات والخدمات بالنظر إلى صفحاتها على متاجر تطبيقات Play على أجهزة أندرويد و App Store على أجهزة شركة أبل، والتي تطلب من التطبيقات تحديد البيانات التي تجمعها عن المستخدم بشكل مفصل. فعند المقارنة بين واتساب وتليجرام وسيجنال نجد أن متجر تطبيقات أبل يعرض 10 أنواع من البيانات التي يجمعها واتساب عن مستخدميه، 9 أنواع منها يربطها بهويته، أما تليجرام فيجمع 7 أنواع من البيانات ويربطها جميعا بهوية المستخدم، بينما يجمع سيجنال نوعا واحدا فقط من البيانات ولا يربطه بهوية المستخدم. وعند المقارنة بين متصفح Chrome و Firefox Focus، نجد أن كروم يجمع 13 نوعا من البيانات يربط معظمها بهوية المستخدم، بينما لا يجمع الآخر سوى نوعين من البيانات ولا يربطهما بهوية المستخدم، وعند المقارنة بين برمجية شهيرة مثل حزمة مايكروسوفت المكتبية (Office 365) وأحد أشهر بدائلها مفتوحة المصدر Collabora Office نجد أن برمجية مايكروسوفت تجمع 7 أنواع من البيانات تربطها جميعا بهوية المستخدم، بينما لا تربط برمجية كولابورا أي بيانات على الإطلاق بالمستخدم. فإذا كنت أحد المستخدمين الذين يهتمون بخصوصيتهم ربما يجدر بك التفكير في إيجاد بدائل للبرمجيات التي تستخدمها بشكل دوري.

(للمزيد: هل يحمي تطبيقك المفضل بياناتك؟)

فكر فيما تشارك من معلومات

الأمثلة لهذا الأمر أكثر من حصرها هنا، لكن عليك عموما أن تفهم أن كل ما تنشره أو تقدمه للخدمات الإلكترونية قد يُستخدم لتتبعك، ولهذا يجب التأكد مثلا من خيارات الخصوصية لحساباتنا على منصات التراسل؛ ما المعلومات التي نسمح للجميع برؤيتها والوصول إليها؟ ما المعلومات التي نسمح لأصدقائنا أو جهات اتصالنا بالوصول إليها؟ هل نستخدم واتساب الذي يجبرنا على الإفصاح عن رقم هاتفنا لكل من نتواصل معه أم نستخدم سيجنال أو واير أو حتى تليجرام الذين يسمحون لنا بإخفاء رقم الهاتف ممن نتواصل معهم؟ وعندما نسجل حسابا جديدا في إحدى المنصات، هل نقدم لتلك المنصة العديد من البيانات الشخصية مثل رقم الهاتف الشخصي أو العنوان؟ أم نلجأ لاستخدام عناوين بريد إلكتروني غير هامة؟ (توفر خدمة ⁨Firefox Relay⁩ إمكانية استخدام عناوين بريد وهمية للتسجيل بالخدمات غير الموثوقة لحماية عناوين بريدنا الإلكتروني الهامة، وفي النسخة المدفوعة توفر أرقام هواتف وهمية لحماية أرقام هواتفنا الحقيقية أيضا). وربما يبدو هذا بديهيا، لكن يجب أن نفكر كذلك في المعلومات التي نشاركها مع الآخرين في رسائلنا وفي المحتوى الذي ننشره، ومن الأشياء التي نغفل عنها كثيرا هي البيانات الوصفية، فإن الملفات بصيغة مايكروسوفت ورد مثلا أو PDF تحمل معلومات عن طريقة إنشائها، وتحمل الصور الملتقطة بالكاميرا أكبر قدر من هذه المعلومات، فقد تفصح الصور عن الجهاز المستخدم في التقاطها وإعدادات الكاميرا وحتى الموقع الجغرافي الدقيق لمكان التقاطها، ولذلك يجب تنظيف الملفات الوصفية للصور التي نلتقطها قبل إرسالها باستخدام منصات لا تمحو البيانات الوصفية.

(للمزيد: كلنا مش عايزين صورة)

 

 

مع زيادة جمع البيانات على نحو واسع صار الحفاظ على الخصوصية أصعب مع الوقت، لكنه أيضا صار أهم خصوصا مع زيادة الأدوات التي تساعد في تتبع الآخرين، لهذا لا يجب الاستهانة بهذا الأمر، ورغم حديثنا عن بعض الأدوات مثل BleachBit و Firefox Relay فإن الأدوات أقل أهمية كثيرا من المعرفة والوعي والإدراك لمخاطر اختراق الخصوصية والذي يمكننا من اتخاذ قرارات والامتناع عن أشياء بدافع فهمنا لتبعاتها على خصوصيتنا. ليس ذنبنا أن الواقع التقني اليوم تسوده تجارة البيانات، لكن للتكيف مع هذا الواقع علينا بذل بعض الجهد حتى لا ننضم لمن يسلبهم هذا الواقع من حقهم في الخصوصية.