شركات التقنية لا تحبك (2) سنحميك من الجميع سوى أنفسنا

تشاهد مؤتمرا للإعلان عن أحدث إصدار من نظام تشغيل شهير للهواتف، تستعرض الشركة المزايا الجديدة وتفرد فقرة كاملة للحديث عن تحديثات الأمان والخصوصية، ترى الشركة تتباهى وتفتخر بما حققته في هذا الصدد، وتشعر أنها فعلا الحامية الكبرى للخصوصية ونصير المستخدم الذي يقف في وجه جشع الآخرين الذين يحاولون اختراقك وسرقة بياناتك وبيعها وتعطيك تحكما أفضل في بياناتك ومنع المتطفلين من الوصول إليها، بعد وهلة تتذكر خبرا قرأته عن تورط تلك الشركة في التعدي على خصوصية مستخدميها بالإضافة إلى سجلها الحافل بالممارسات غير الأخلاقية التي تتعدى عبرها على حقوق المستخدم وتستغله. تصيبك الحيرة بشدة من هذا الأمر، فمن جهة لا تتوقف تلك الشركة عن الحديث عن حرصها على مصلحة المستخدم وأمنه وخصوصيته، ولا تفوت فرصة في مؤتمر أو إعلان أو لقاء مع أحد مسؤوليها للتأكيد على عملها المضني لحماية المستخدم، ومن ناحية أخرى فقائمة انتهاكات هذه الشركة طويلة. كيف نفهم هذا الأمر؟ لقد أجادت شركات التكنولوجيا عدة ألاعيب تقنع بها المستخدم أنها البطل الذي سينقذه من مجرمي الإنترنت بينما تجمع عنه قدرا هائلا من البيانات، وهذا ما سنتناوله في هذا المقال.

توجه إلى مركز الحسابات (Accounts Center) في ميتا، ويمكنك الوصول إليه عبر إعدادات فيسبوك أو إنستجرام، ثم اختر المعلومات والأذونات الخاصة بك (Your information and permissions) ثم اختر نشاطك خارج تقنيات ميتا (Your activity off Meta technologies)، سيطلب منك كلمة سر الحساب ثم سيسمح لك برؤية أحدث النشاطات، والتي، إذا لم تكن قد ألغيت تفعيلها من قبل، ستحتوي في الغالب عشرات أو ربما مئات الخدمات التي استخدمتها وجمعت عنك ميتا تفاصيل استخدامك الدقيقة لها، وإذا توجهت أيضا إلى مركز الإعلانات وطلبت عرض جميع الموضوعات التي تعرف ميتا أنها تهمك ثم رتبتها من حيث الأكثر عرضا، ربما تندهش من درجة فهم شركة ميتا لشخصيتك. ربما يعطيك هذا فكرة عن قدر البيانات التي تجمعها عنك شركات التقنية، ونلاحظ أن تلك البيانات التي وصلنا إليها هي ما تعترف تلك الشركات بجمعه لنا، من الوارد جدا (بل ومن المثبت مع بعض الشركات) أنها تجمع أكثر بكثير مما تفصح عنه، وبينما تقدم ميتا مثلا للمستخدم خيار إيقاف جمع البيانات عنه خارج المنصة، إلا أنها جعلت الإعدادات معقدة وصعّبت وصول المستخدم إلى هذه الخطوة وخصوصا في بداية طرح هذا الخيار، فخيارات الخصوصية في منصات ميتا، والكثير من المنصات، بين سيئ وأسوأ، سواء من حيث الوصول للإعدادات أو من حيث فهم المستخدم لما تعنيه هذه الإعدادات.

وبينما تدعي شركات التقنية حمايتها للبيانات فإنها عادة ما تعني بذلك حماية بيانات المستخدم من الأطراف الأخرى وليس من نفسها، فيتحول السباق نحو الخصوصية إلى سباق نحو احتكار البيانات، فتحاول شركة جوجل مثلا الترويج لميزة جديدة في متصفحها الشهير جوجل كروم على أنها طريقة "للحفاظ على خصوصية المستخدم" بحيث تمنع الشركات الأخرى من الحصول على سجل تصفح المستخدم وبدلا من ذلك تحصل جوجل على هذا السجل وتقدم إلى تلك الشركات فئات الاهتمامات لدى المستخدم بناءً على هذا السجل، وبهذه الطريقة تحاول الشركة أن تظهر كأنها تحافظ على الخصوصية في ظل زيادة الوعي بانتهاكات الخصوصية مؤخرا بينما تحافظ في الواقع على انتهاكاتها لخصوصية المستخدم، ومما يساعد تلك الشركات أنها تحتكر نصيب الأسد من قاعدة المستخدمين الذين لا يعرفون سواها، فالعديد من المستخدمين لا يعرفون محرك بحث غير جوجل، وقد صار الواقع أن يختار المستخدم هاتفا إما بنظام أندرويد الذي تطوره جوجل أو iOS من شركة أبل، وهو ما يجعله تحت رحمة واحدة من تلك الشركتين.

شركة أبل لا تفوت فرصة للحديث عن أن الأمان والخصوصية أولوياتها القصوى، وسجلها في هذا المجال أفضل بالفعل من نظرائها، لكن هذا الحديث المستمر عن الأمان يوفر أيضا غطاءً ممتازا لممارساتها الاحتكارية والتي يشجعها العديد من مستخدميها اقتناعا منهم بأن هذا ما يحافظ على أمانهم وخصوصيتهم، ولا شك أن انغلاق أنظمة أبل يعزز بالفعل من أمانها لكنه في ذات الوقت يعطي أبل سلطة مطلقة على الأجهزة التي تعمل بأنظمتها ويرى الكثيرون أن الشركة تسيئ استغلال هذه السلطة، وهو ما ظهر في العديد من المناسبات خصوصا لأصحاب التطبيقات التي تقدم أبل خدمات منافسة لها مثل سبوتيفاي ونتفليكس، وقد أوضحت سبوتيفاي في موقع أنشأته خصيصا لذلك – timetoplayfair.com – النهج الاحتكاري الذي تتبعه أبل في التعامل مع منافسيها، حيث تضطر أبل منافسيها مثل سبوتيفاي إلى دفع 30% من قيمة الاشتراكات عبر خدمة الدفع على هواتف أيفون إلى أبل بينما لا تدفع خدمة أبل للموسيقى (التي تنافس سبوتيفاي) نفس هذه الرسوم، بل ولا تدفع خدمة أوبر مثلا نفس هذه الرسوم لأنها لا تنافس أبل. وتمنع أبل تطبيق سبوتيفاي على أيفون من إبلاغ المستخدم بعروض وطرق أخرى للدفع إذا رفض استخدام خدمة الدفع التي توفرها أبل.

لدى شركة أبل أيضا تحكم كامل في متجر التطبيقات على أجهزتها، فبوسعها رفض التطبيقات لأسباب تافهة، وبوسعها كذلك تعطيل التحديثات، كما عطلت تحديثات تطبيق تليجرام لشهور في 2018. في صفحة أنشأتها موزيلا، أوضحت بعض الممارسات الاحتكارية التي تقوم بها أبل لفرض متصفح سفاري على أجهزتها وتقويض المتصفحات الأخرى، وشركة جوجل لفرض متصفح كروم في نظام أندرويد، وشركة مايكروسوفت لفرض متصفح إدج. تشمل هذه الممارسات تجاهل قرار المستخدم في اختياره لمتصفحه الافتراضي وإجباره على فتح متصفح الشركة في بعض الحالات ومنع المتصفحات الأخرى من استيراد بيانات المتصفح إذا رغب في تغييره على الهاتف. تسرد موزيلا في هذه الصفحة ثلاثة ممارسات احتكارية تقوم بها جوجل، وثلاثة ممارسات احتكارية تقوم بها مايكروسوفت، وإحدى عشرة ممارسة احتكارية تقوم بها أبل، وغالبا ما تبرر أبل تلك الممارسات الاحتكارية بدواعي الأمان والسلامة والخصوصية رغم إمكانية تجاوزها مع الحفاظ على هذه المبادئ.

إذا كانت شركات التقنية صادقة في رغبتها في الحفاظ على خصوصية المستخدم فإن الحل لا يكمن في استغلال سلطتها على أجهزة المستخدم للقيام بممارسات احتكارية تقوم من خلالها بتحقيق أرباح وجمع بيانات المستخدمين وتهديد خصوصيتهم. الحل في ضمان المنافسة العادلة، لأن المنافسة العادلة هي التي تشجع الشركات على تقديم أفضل الحلول للمستخدم، وتلك المنافسة تكون بإزالة العوائق التي تمنع الخدمات المتنافسة من العمل على أجهزة المستخدمين بكفاءة وتعطي المستخدم حقه في تقرير الخدمات التي يريد استخدامها بدلا من فرض خدمات الشركات الاحتكارية، فإذا كانت شركات التقنية الكبرى تدعي حرصها على مصلحة المستخدم، فإن المعادلة بسيطة؛ كلما كانت فرص تنافس الخدمات متساوية، يحصل المستخدم على أكبر قدر من الاستفادة، وكلما زادت الممارسات الاحتكارية وحصلت الشركات الكبرى على فرص غير متكافئة، زادت فرصها في انتهاك خصوصية المستخدم وتضرر المستخدم أيضا من ركود المنافسة التي تحفز الخدمات المتنافسة على التطور، فلماذا لا تقدم الشركات حلولا حقيقية للخصوصية والأمان بدلا من احتكار انتهاكات الخصوصية كذلك؟