لماذا يصعب علينا التراسل بمجهولية
المجهولية (anonymity) هي قدرتنا على فعل الأشياء دون الكشف عن هوياتنا، ومجهولية التراسل (anonymous messaging) هي قدرتنا على إرسال رسائل دون قدرة الأطراف الأخرى على تحديد هوياتنا، وهنا لا نعني الرسائل المجهولة التي يمكننا إرسالها مرة واحدة دون قدرة الطرف الآخر على الرد والتي ينتشر استخدامها لإرسال الاعترافات والرسائل المحرجة، رغم أن هذا النوع من الرسائل ينطبق عليه تعريف المجهولية بصورة أنسب، باعتبار أن المجهولية تتحقق بعدم وجود وسيلة تعريف دائمة ترتبط بالمستخدم، فهذا النوع من التراسل هو أحادي الطرف، أي أن طرفا واحدا يبعث رسالة محددة لا يمكن للطرف الآخر التجاوب معها بشكل مباشر، لكننا نتحدث عن التواصل المستمر (التراسل) الذي يتم بين طرفين أو أكثر عبر منصة تراسل، والمجهولية التي نعنيها هنا هي عدم قدرة الطرف الآخر على ربط حساباتنا الافتراضية بهوية محددة في الواقع فيصبح بإمكاننا دعوة الآخرين للتواصل معنا دون إعطائهم بيانات شخصية مثل رقم الهاتف، وكذلك عدم قدرة منصات التراسل التي نستخدمها على تحديد هوياتنا من خلال البيانات التي تجمعها عنا عند إنشاء الحسابات كرقم الهاتف مثلا.
ألا تقصدون الخصوصية؟
لا، فالتراسل بخصوصية يعني وصول الرسالة إلى الطرف التي أُرسِلَت تلك الرسالة إليه دون قدرة أي طرف آخر على الاطلاع على محتوى تلك الرسالة، ويتحقق هذا من خلال استخدام بروتوكولات تشفير تضمن عدم إمكانية فك تشفير الرسالة سوى على جهاز المتلقي المقصود، ومن أهم المنصات التي تعتمد على التشفير من الطرف للطرف (end-to-end encryption) هو تطبيق سيجنال (Signal) الذي يطور أهم بروتوكولات تشفير المحادثات، والذي تستخدمه منصات أخرى مثل واتساب (WhatsApp) وواير (Wire) وغيرهما، والخصوصية لا تعني المجهولية، فبإمكاننا إرسال رسالة باستخدام تطبيق يدعم تشفير محتوى الرسائل بينما يجبرني هذا التطبيق على إعطاء رقم هاتفي لمن أراسله وللتطبيق نفسه، فهنا رسائلنا خاصة لكن هوياتنا مكشوفة. ورغم أن موضوعنا هذا عن المجهولية، فإن الخصوصية أمر نضعه أيضا في عين الاعتبار، لهذا سننظر بشكل أساسي إلى منصات التراسل التي توفر مستوى جيدا من الخصوصية كذلك عبر استخدام بروتوكول تشفير جيد.
للإجابة عن السؤال المطروح في عنوان المقال، يجب أن نوضح أهم العوائق أمام المجهولية في التراسل…
ترغب المنصات في التعرف عليك
معظم منصات التراسل التي نستخدمها، إن لم تكن كلها، مجانية، والقليل منها يوفر نسخا مدفوعة (مثل تليجرام وواير)، فلماذا برأيك نستفيد بتلك الخدمات مجانا؟ أليست لهذه الخدمات تكلفة تشغيلية؟ هذه الخدمات في حقيقة الأمر تتحمل تكاليف باهظة لتشغيلها لكنها تقدم لنا تلك الخدمات مجانا لأحد سببين في غالب الأمر؛ الأول هو أن تلك الخدمة تعتمد على التبرعات لتشغيلها، والثاني أن تلك الخدمة تتربح من المستخدم بطرق غير مباشرة، وعادة ما تكون تلك الطرق مرتبطة بجمع أكبر قدر من البيانات عن ذلك المستخدم وبيعها (للمعلنين في أحسن الأحوال)، وفي تلك الحالة فإن المستخدم لا يدفع مالا نظير تلك الخدمة، لكنه يدفع بياناته ومعلوماته التي تستخدمها المنصة في بناء ملف له يوضح أدق تفاصيل حياته واهتماماته وممارساته ورغباته ومخاوفه حتى يمكن استهدافه بإعلانات مخصصة له، وهذا يعني أن المنصة تحتاج إلى ربط تلك البيانات بهوية محددة، لهذا فإن المنصات لا تود أن تسمح لمستخدميها بالبقاء مجهولين أمامها على الأقل، فهي تحتاج معلومات عن هوياتهم لتتمكن من بناء ملف مرتبط بكل مستخدم لخدماتها.
المجهولية ليست دوما جيدة
بما أن المجهولية تعني عدم قدرة الأطراف الأخرى على ربط بياناتك بهوية محددة، فلن يصبح بوسع التطبيق تحديد هويتك من الأساس، فإذا كان التطبيق يربط حسابك برقم هاتفك مثلا سيصبح بوسعك إنشاء حساب واحد إذا كان لديك رقم هاتف واحد، أو حسابين إذا كان لديك رقمين، وهكذا، وهذا يعني أن الشخص الواحد مثلا بإمكانه أن ينشئ عددا لا نهائيا من الحسابات إذا لم تربط المنصة حسابات المستخدمين بشئ محدد لدى كل مستخدم مثل أرقام الهواتف، فإذا كانت المنصة ستتكفل بتكاليف تشغيل الخدمة وتقدمها لك مجانا فإنها لا تريد منك استغلالها واستخدامها بشكل زائد عن الاستخدام الطبيعي، وكذلك فإن عدم قدرة المستخدمين على إنشاء عدد لا نهائي من الحسابات في كل منصة يعني قدرة المنصة على محاربة إساءة الاستخدام، فإذا تم استخدام المنصة لارتكاب جرائم أو استغلال خوادم المنصة بشكل غير طبيعي فإن المنصات التي لا يمكنها تحديد هويات المستخدمين بأي شكل لا تستطيع حماية نفسها ومستخدميها من المستخدمين الذين يشكلون خطرا عليها وعلى المستخدمين الآخرين، لأن المنصة إذا قامت بإغلاق أحد الحسابات فإن بوسع المستخدم إنشاء حسابات أخرى بسهولة بسبب عدم قدرة المنصة على تحديد هويته.
كيف يحددون هويتي؟
- رقم الهاتف: هذه هي الطريقة الأشهر، حيث أن الحصول على رقم هاتف فعال في معظم الأحيان يعني دفع المال لشركة الاتصالات ودفع فواتير المكالمات، لهذا فإن الحصول على الكثير من أرقام الهواتف ليس أمرا سهلا بالنسبة لأغلب المستخدمين، ولهذا تعتمد عليه الكثير من الخدمات.
- البريد الإلكتروني: هذه أيضا طريقة واسعة الانتشار، لكنها أقل قدرة على تحديد هوية المستخدم، فبوسع الناس إنشاء عدة عناوين بريد إلكتروني بسهولة نسبيا، وإذا قامت أحد المنصات بإغلاق حساب مستخدم لم تكن تعرف عنه سوى عنوان بريده الإلكتروني فإن بوسعه إعادة إنشاء حساب آخر باستخدام عنوان بريد إلكتروني مختلف بسهولة.
- بيانات الجهاز: هذه الطريقة ليست شائعة لإنشاء الحسابات، لكنها تستخدم عند إغلاق الحسابات عندما يسيء شخص استخدام إحدى الخدمات، فبوسع الخدمة أن تحجب عن الجهاز بالكامل القدرة على استخدام هذه الخدمة، حتى إذا حصل المستخدم على رقم مختلف أو عنوان بريد إلكتروني مختلف لن يتمكن من استخدام الخدمة على نفس الجهاز، وتستخدم المنصات بيانات الجهاز أيضا في ربط بيانات المستخدم ببعضها، فإذا قام شخص باستخدام تطبيق فيسبوك على أحد الأجهزة ثم أنشأ حسابا منفصلا على تطبيق إنستجرام واستخدمه على نفس الجهاز، ستفهم شركة ميتا أن حساب إنستجرام هذا مرتبط بحساب فيسبوك ذاك، وبالتالي فإن البيانات التي ستجمعها عنك ميتا من خلال فيسبوك وإنستجرام ستضعها في ملف واحد، لأنها تعرف أنك أنت الشخص نفسه.
- بيانات أخرى: هناك عدة طرق أخرى تستخدمها الخدمات لتحديد هويتك مثل عنوان الـ IP والموقع الجغرافي وغيرها. لا نسعى هنا لحصر تلك البيانات، لكن لتوضيح أن لدى المنصات الإلكترونية خيارات كثيرة لتحديد هويتك.
هل يمكننا إذن التراسل بمجهولية تامة؟
نعم، رغم أن هذا ليس شائعا على الإطلاق، فهناك بعض منصات التراسل التي صممت خصيصا لهذا الغرض مثل SimpleX و Session، حيث يمكن للمستخدم تسجيل حساب دون تقديم رقم هاتف أو بريد إلكتروني، ويتفوق SimpleX في كونه لا يربط الحسابات حتى بأي أرقام تعريف على الإطلاق، فتطبيق Session مثلا يضع لكل مستخدم أرقام تعريف عشوائية لتسهيل التراسل، ويستخدم التطبيقان خوادم لا مركزية، وهما مفتوحا المصدر، وكلاهما تعرض مؤخرا للمراجعة والتدقيق، وهذا يجعلهما من البدائل الجيدة للتراسل بمجهولية.